شرعنة الإمعان في اضطهاد المرأة

3 أشهر مضت
417

بغداد تايمز

الكاتب الصحافي: مصطفى فاضل

تنص المادة (41) من الدستور العراقي على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون”. ومن رحم هذه المادة _كما يزعمون_ صاغ المشرع العراقي مقترح مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959، الذي تشير تعديلاته في إحدى فقراتها على أنه “يحق للعراقي والعراقية عند إبرام عقد الزواج أن يختار المذهب الشيعي أو السني الذي تطبق عليه أحكامه في جميع مسائل الأحوال الشخصية، ويجوز لمن لم يسبق له اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق أحكام الشرع على الأحوال الشخصية، وفق المذهب الذي يختاره ويجب على المحكمة الاستجابة لطلبهم”.

وينص التعديل أيضاً على أنه “إذا اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم، فيعتمد الرأي الشرعي فيها”، كما يلزم التعديل الجديد “المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني بالتنسيق مع مجلس الدولة بوضع مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية وتقديمها إلى مجلس النواب للموافقة عليها خلال 6 أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون”.

ويشمل التعديل كذلك تصديق محكمة الأحوال الشخصية على عقود الزواج “التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج، بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين”.

أثار مقترح التعديل منذ طرحه -لأول مرة- في جدول أعمال جلسة البرلمان خلال الشهر الماضي جدلاً واسعاً بين الأوساط الفاعلة والمؤثرة في المشهدين الاجتماعي والسياسي، وبعد قراءته الأولى في مجلس النواب في الرابع من أغسطس الجاري تحركت الأوساط الشعبية بتظاهرات منددة باضطهاد المرأة في ظل مجتمع ذكوري متسلط. ويمكن تلخيص ردود الفعل على التعديل بين مؤيدين له وهم أغلب أعضاء المكون الشيعي في البرلمان، وبعض شرائح المجتمع خاصةً الذكور منهم، الذين يرون فيه تجسيداً للتنوع الديني والطائفي والمذهبي الذي يزخر به العراق بما يمنح العراقيين حرية الاختيار فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية، وفق الدين أو الطائفة أو المذهب الذي يعتنقونه كما نصت عليه المادة (41) من الدستور العراقي التي أشرنا لها سلفاً. وسيتضح زيف هذا الادعاء مع نهاية المقال.

وبين معارضين للتعديل أبرزهم تحالف 188 الذي يضم مجموعة من الحركات النسوية ومنظمات المجتمع المدني وقوى سياسية ومدنية، وأغلب شرائح المجتمع وخاصة شريحة النساء. حيث يرون فيه انتهاكاً سافراً للدستور والحقوق والحريات التي كفلها، وعودة إلى زمن كانت فيه المرأة مجرد سلعة خالية من كل ما تمثله من قيم وعطاء.

وبين هذين الرأيين، دعونا نستشرف أهم مواد التعديل التي سيشرع في تدوينها الوقفين الشيعي والسني تحت مسمى “مدونة الأحكام الشرعية” وتقديمها إلى البرلمان خلال 6 شهور من نفاذ هذا القانون. ونقارنها مع مواد القانون المعمول به حالياً من منطلق وسطي معتدل يبحث عن المصلحة العامة والقصدية المعتدلة وكالآتي:

أولاً – سن الزواج:

وفقًا للقانون الحالي، يُشترط بلوغ الزوجين 18 عاماً لعقد القران، أو 15 عاماً مع إذن من القاضي في حالات خاصة، وذلك بناءً على “البلوغ الشرعي والقابلية البدنية”. أما وفق مشروع التعديل، فيُشترط أن يكون السن القانوني للزواج بعد سن البلوغ، وهو عند مشهور فقهاء المسلمين 9 سنوات. والسؤال هنا: ألم يأخذ المشرع العراقي الذي صاغ التعديل في الحسبان أن نسبة الزيجات التي تُجرى للفتيات القاصرات دون 18 سنة في العراق بلغت 28%، ويتم أغلبها على أيدي رجال الدين ودون تسجيل رسمي حسب تقارير الأمم المتحدة؟ هذه النسبة موجودة رغم وجود قانون يجرم هذا الفعل، فكيف سيكون الحال مع شرعنته؟ كم سترتفع النسبة؟ الطفلة بعمر 9 سنوات مكانها المدرسة، وهمها الوحيد هو أي لعبة أطفال تختار كهدية لتفوقها في درس “دار دور”، وليس الانشغال في إدارة منزل زوج “بيدوفيلي” وتحمّل هموم تربية ورعاية أطفاله، وهي بأمس الحاجة لهذه الرعاية من ذويها. هذا القانون وبلسان قاطع يشرع اغتصاب الطفولة وبأبشع الطرق الممكنة، وما يرافقه من أضرار جسيمة نفسية وجسدية على الطفلة سترافقها طيلة حياتها. وبحسب تقارير لمجلس القضاء الأعلى سجل العراق خلال العام الماضي 2023، قرابة 70 ألف حالة طلاق، لأسباب متعددة بينها (الزواج المبكر) والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها الزوجان، إذ بلغت حالات الطلاق 68016 حالة، وهو ما يعني تسجيل أكثر من 200 حالة يومياً (206) وأكثر من 8 حالات (8.5) في الساعة الواحدة. نلحظ من التقرير أن الزواج المبكر من أسباب -إن لم يكن أهمها- حدوث الطلاق.

هذه الأرقام إن شرع القانون سترتفع بنسب جنونية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق.

ثانياً – الإرث:

ينص القانون الحالي على أن تحصل الزوجة على ربع التركة إذا كان للمتوفى أبناء، ونصفها إذا لم يكن له أبناء. وفقاً لمشروع التعديل الجديد، واستناداً إلى فقه المذهبين السني والشيعي، تستحق الزوجة ربع إرث زوجها في حال لم يكن للزوج أي من الفروع الوارثة، وهي: الابن، البنت، ابن الابن، وبنت الابن. أما إذا كان للزوج أحد الفروع الوارثة السابقة، سواء من هذه الزوجة أو من غيرها، فيحق لها الثمن فقط. ومع ذلك، هناك فرق رئيس يميز المذهب الشيعي (الجعفري) يتعلق بالأرض والعقارات، حيث لا ترث الزوجة من الأرض والعقارات (مثل المنازل والأراضي الزراعية) إلا قيمة المباني فقط، ولا ترث في أصل الأرض. هذا يعني أن الزوجة لا ترث قيمة الأرض، ولكن يمكنها أن ترث قيمة المباني القائمة عليها. فماذا أبقيتم للزوجة المطلقة من ميراث لتدير به ما تبقى من حياتها المعدمة؟ يمكن للزوج ببساطة أن يزج بها في الشارع مع “فتاة المال”، ويُطلب منها أن تحافظ على ما تبقى من كرامتها وحياتها التي سلبها القانون. والطامة الكبرى، إذا طلقت الطفلة في عمر 10 سنوات، فماذا ستفعل وكيف ستواجه وحوش المجتمع التي ترى فيها فريسة سهلة؟ فلا مال تستر به نفسها، ولا منزل تأوي إليه وتحتمي تحت سقفه من شارع لا يرحم. وفوق ذلك أهل زُرع في قلبهم قسوة القتلة.

ثالثاً – الحضانة:

حسب النص الحالي، تُعطى الحضانة للأم بشكل عام حتى يبلغ الطفل سناً معينة (عادةً سبع سنوات للولد وتسع سنوات للبنت). بعد ذلك، يمكن أن تُنقل الحضانة إلى الأب أو يُترك للطفل حرية اختيار أحد والديه عند بلوغه سناً معينة. أما في مقترح التعديل الجديد، وحسب الفقه الإسلامي، تختلف أحكام حضانة الطفل بين المذهبين السني والشيعي بناءً على تفسيراتهم للشريعة الإسلامية كما يلي:

أولاً- المذهب السني: تُعطى الحضانة للأم في المقام الأول حتى يبلغ الطفل سناً معينة، تختلف بين المدارس الفقهية، والمشهور أن الصبي يبقى مع والدته حتى سن السابعة، بينما تبقى البنت حتى سن التاسعة، وبعدها يُخير الطفل بين البقاء مع والدته أو الانتقال للعيش مع والده.

ثانياً- المذهب الجعفري: تُعطى الحضانة للأم في السنوات الأولى من عمر الطفل حتى يبلغ سن الثانية، وبعد ذلك تنتقل الحضانة للأب. بالنسبة للبنت، تكون الحضانة للأم حتى سن السابعة، وبعدها تنتقل الحضانة إلى الأب.

يبدو أن التفسيرات الفقهية المتعلقة بالحضانة تعتمد بشكل كبير على تقاليد وأعراف مجتمعية قديمة عفا عليها الزمن، دون الأخذ بعين الاعتبار التطورات الاجتماعية والنفسية الحديثة التي تؤكد على أهمية استقرار الطفل ورفاهيته. في كلا القانونين، يبدو أن مصلحة الطفل الحقيقية تأتي في المرتبة الثانية بعد مراعاة حقوق الأبوين، هذا إن روعيت حقوق الأبوين بعدالة، مما يعكس نقصاً في التوازن بين حماية حقوق الوالدين وضمان بيئة صحية ومستقرة للطفل.

إن هذا الوضع يستدعي إعادة النظر في قوانين الحضانة بحيث تكون الأولوية القصوى لمصلحة الطفل، بعيداً عن أي تحيز لمصلحة أحد الوالدين على حساب الآخر. كما أن التشريعات الجديدة يجب أن تأخذ في الاعتبار الظروف الفردية لكل حالة، مثل طبيعة العلاقة بين الطفل ووالديه، والاستقرار النفسي والاجتماعي للطفل، والعوامل التي يمكن أن تؤثر على نموه وتطوره بشكل سليم. من هنا، يمكن أن يتجسد الاهتمام الحقيقي بمصلحة الطفل، بديلاً عن مجرد اتباع تقاليد وقواعد قد لا تتماشى مع احتياجات الطفل في العصر الحديث.

وأخيراً، فإن مشروع التعديل يحتوي على العديد من المشاكل ويقيد حرية المرأة بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بحقها في تحديد أحوالها الشخصية في حالة الزواج المختلط. فلو تزوج رجل شيعي من امرأة سنية، وحدث خلاف بينهما حول أي مذهب يعتمد في مدونة الأحكام الشخصية، فإن الاعتماد يكون على مذهب الرجل، مما يفرض على المرأة اتباع مذهب ومرجع قد لا تؤمن به. هذا يمثل تمييزاً قائمًا على أساس الجنس ويمس حقها في حرية الاختيار، بما يتنافى مع المادة (41) من الدستور التي يدعي مؤيدو التعديل أنها الأصل في فيه. إذن، يجب أن يتمتع المواطن العراقي (ذكراً كان أو أنثى) بحق اختيار مذهبه بحرية دون تمييز.

أما المسألة الثانية، فهي تتعلق بحاكمية الرأي الفقهي المشهور وتبعاته القانونية على حرية الفرد في اتباع المراجع الدينية التي يقلدها. يُعتمد الرأي الفقهي المشهور في كتابة مدونة الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية. وفي حال تعارضت فتوى مرجعك مع الرأي الفقهي المشهور، يتم تجاهل فتوى مرجعك. كذلك، في حالة عدم وجود رأي مشهور في مسألة جديدة، يتم العودة إلى رأي المرجع الشيعي الذي يتبعه أغلب الشيعة في العالم. وهنا أيضاً يتم تجاهل فتوى مرجعك إذا كنت تتبع مرجعاً آخراً.

كذلك يُثار التساؤل حول السبب وراء إضافة الفقرة (ت) من المادة (3) التي أضافوها للمادة (2) من القانون النافذ، والتي تنص على “وضع مدونة الأحكام الشرعية من قبل الجهات الدينية وتقديمها إلى البرلمان خلال 6 أشهر من نفاذ هذا القانون”. فكيف يمكن التصويت على قانون جميع مواده وتفاصيله ستُضاف لاحقاً من قبل الجهات الدينية؟ كيف يسمح البرلمان لنفسه أن يصوت على قانون لم يطلع على كل تفاصيله كاملة؟ كيف يتعامل “بالتقسيط المريح” مع أهم قانون يمس حياة المواطنين بشكل مباشر؟

خلاصة القول: إن المرأة اليوم تواجه واقعاً لا يرحم، حيث ينوي القانون تجريدها من أبسط حقوقها، كأنها زائدة لا وزن لها في معادلة الحياة الزوجية. فما الذي ستفعله حين تجد نفسها وحيدة، بلا مأوى يحميها من قسوة الليالي الباردة، ولا جدار تستند إليه حين تعصف بها رياح الظلم؟ كل ما كانت تبنيه بسنوات عمرها قد يتبدد في لحظة أمام أعين مجتمع لا يرى فيها إلا عبئاً يجب التخلص منه. كيف لها أن تقف صامدة أمام من يلهث خلفها، لا يبالي بدموعها السخينة؟

إنها معركة لا يشعر بها إلا من اكتوى بنارها، معركة تتشابك فيها خيوط الظلم والخذلان، حيث تُترك فيها المرأة لتواجه مصيرها المحتوم وحيدة. أين العدالة في أن تُجرد من حقها في الأمان والاستقرار؟ أين الإنصاف في أن تُحرم من نصيبها في الميراث الذي كان يمكن أن يكون طوق نجاتها الوحيد في بحر الحياة المتلاطم؟ أين المنطق في أن يُشررع قانون يبيح اغتصاب طفولتها معنوياً وجسدياً؟ وأنتم يا أهل الحل والعقد، أترضون أن يظل صوتها مكتوماً، وحقوقها مهدورة، وحياتها محطمة تحت وطأة القوانين الجائرة؟

التصنيفات : كتابات