بغداد تايمز
الكاتب الدكتور محمد السعيد إدريس
إذا كانت اللحظة الراهنة التى نعيشها الآن، رغم قسوة الظروف وتراكم المشاكل والأزمات تقول، بل وتؤكد، أن الحاجة لم تكن ماسة “للعروبة” كما هى الآن، وإذا كانت التطورات والأحداث المتسارعة وطنياً، أى داخل كل دولة عربية، وعربياً وإقليمياً ودولياً تؤكد هى الأخرى هذه الحقيقة فإننا نكون، كعرب، مطالبون بإعادة تخليق وعى عربى ينفض عن الأمة كل ما تعرضت له على مدى العقود الخمس الماضية من عمليات اختراق للوعى والفكر كان الهدف هو الدفع بهما بعيداً عن ما تفرضه العروبة من تمسك بالهوية القومية العربية بأبعادها الحضارية، ومن استغراق فى عمليات جادة للتخلص من كل جذور التجزئة والتقسيم القسريين اللذين تعرض لهما الوطن العربى على أيدى القوى الاستعمارية، كما أننا مطالبون، فى ذات الوقت باستنهاض مشروع عربى للنهضة يأخذ فى اعتباره مسئوليات ومتطلبات الانخراط فى هذا المشروع ومنطلقاته ومقوماته الأساسية التى يجب أن ينهض عليها.
وإذا كانت أبرز منطلقات هذا المشروع، أى معالمه الأساسية، أن يكون مشروعاً “ديمقراطياً” حقيقياً بكل ما تعنيه الديمقراطية من توجهات معاكسة تماماً لكل نزوع الاستبداد والتسلط على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، فإنه يجب أن يكون مشروعاً “شعبياً” ، وليس محصوراً فى الأطر الحكومية الضيقة، التى تبقى دائماً رهناً لمعادلات المنافسات والصراعات الحكومية بين نظم الحكم العربية التى دفعت مؤسسة النظام العربى ، أى جامعة الدول العربية ، أثماناً فادحة لها وحالت دون تحقيقها الأهداف التى قامت من أجلها. ولكى يكون هذا المشروع العربى الجديد للنهضة، مشروعاً معبراً عن وعى عروبى جديد، فلابد أن يكون الشعب العربى، بكل مكوناته، هو من يتحمل مسئولية تحقيقه، وهنا ترتبط المسئولية بالوعى ما يعنى أن أولى معارك تحقيق هذا المشروع هى معركة توليد وعى عروبى يعكس كل آمال وطموحات الأمة فى النهوض، وفى مقدمتها بالطبع “الوعى الوحدوى” وارتباط الشعب، مصلحياً، بأمل الوحدة، أياً كانت أشكالها ودرجاتها، كونها ملاذه لامتلاك إرادته والسيطرة على ثرواته، والانعتاق من كل قيود التبعية للغرب الرأسمالى بكل تسلطه واستعلائه وغروره، والبدء فى تحقيق التقدم بامتلاك القدرة على صنع المستقبل الذى يريده، وأن يكون شريكاً موثوقاً به فى صنع المستقبل العالمى .
مثل هذا المشروع الهائل يجب أن يكون له مقوماته التى تحدد معالمه وهويته وتعبر عن أهدافه وطموحاته، ويمكننا تحديد أربعة مقومات أساسية لهذا المشروع تجمع كل من بيئته الداخلية وبيئته الإقليمية والعالمية. بالنسبة للبيئة الداخلية للمشروع يمكن الحديث عن ثلاث مقومات تتلخص فى بناء “مجتمع العدل والحرية والكفاية” .
فمجتمع العدل الذى يجب أن يكون أحد المقومات الأساسية للمشروع العروبى الجديد للنهضة والتقدم هو مجتمع العدل القانونى ومجتمع العدل الاقتصادى والاجتماعى، ومجتمع العدل السياسى. والعدل القانونى هو سيادة حكم القانون فى دولة مدنية تقوم على قاعدتين: السيادة للقانون وحده وليس لغيره من الاعتبارات ، والمساواة بين المواطنين دون تمييز لأى سبب من الأسباب، أى المساواة القائمة على قاعدة المواطنة.
أما العدل الاقتصادى والاجتماعى فهو مجتمع “العدالة التوزيعية” أى عدالة توزيع الثروة الوطنية بين المواطنين، بما يحقق تكافؤ الفرص ويذيب الفوارق بين الطبقات ويؤمن الحقوق فى العمل والتعليم والسكن والعلاج، ويحول دون حدوث الاستقطاب الطبقى بين أقلية تملك وأغلبية محرومة لا تملك. أما العدل السياسى فهو العدل الذى يحقق العدالة فى توزيع “القوة السياسية” بين المواطنين، أى “العدالة فى النصيب المتكافئ من السلطة”، والحيلولة دون احتكارها لأى سبب من الأسباب، وتحت أى مسمى من المسميات لحزب أو قبيلة أو عائلة أو فرد أو طبقة. فالقوة السياسية، أى “السلطة” مثلها تماماً مثل “الثروة” هى “ملك وطنى عام” يجب عدم احتكارها، وذلك من خلال تفعيل قاعدة “تداول السلطة”، ومن خلال عمليات ديمقراطية متعددة تؤّمن الحق الكامل غير المشروط فى المشاركة السياسية.
أما “مجتمع الحرية” فيعنى تأمين ثلاث حريات: حريات الأفراد، وحرية المجتمع، وحرية الوطن. ويكون تأمين حرية الأفراد بكفالة الحريات المدنية والإنسانية، وفى مقدمتها “حرية الاختيار” و”حرية الفكر” و”حرية تبادل المعلومات”، و”حرية التعبير”، و”حرية التنظيم، والقضاء على كل أشكال القهر والتسلط السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى”. ويكون تأمين “حرية المجتمع” من خلال صيانة الحرية الكاملة للجماعات والثقافات الفرعية الوطنية، وتأمين قاعدة “المواطنة المتساوية” داخل الوطن وعلى مستوى الأمة فى الحقوق والحريات والواجبات بين كل مكوناتها من أعراق وديانات ومذاهب وثقافات. أما “حرية الوطن”، وهى الركن الثالث والأهم فى بناء مجتمع الحرية فهى تستلزم تأمين استقلاله وسيادته الوطنية، وإكسابه القوة والمنعة والاستعصاء ضد كل محاولات فرض الهيمنة والتبعية والتقسيم الجديد للخرائط السياسية كما هى فى مشاريع الغرب، وخاصة المشاريع الأمريكية، من شرق أوسط كبير أو شرق أوسط جديد، أو أحلاف إقليمية جديدة تخضع للهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية، وقبل هذا كله تأمين حرية القرار الوطنى وسيادته على كل الإرادات .
إن بناء “مجتمع العدل والحرية” يستلزم أن يتزامن معه هدف ثالث هو بناء “مجتمع الكفاية الإنتاجية” عبر عمليات تنموية متواصلة يكون فى مقدورها ليس فقط مواجهة قيود التخلف، ولكن أيضاً تمكين الوطن والأمة من امتلاك قدرات التقدم، عبر توسيع قاعدة الثروة الوطنية والاعتماد على كل ما يقدمه العلم والتكنولوجيا من أساليب لتحقيق النهوض المأمول، باعتبار أن تحقيق ذلك هو الشرط الموضوعى لتحقيق “مجتمع العدل والحرية”، أى تحقيق العدل المقترن بالرخاء ، وألا سيكون عدلاً فى توزيع الفقر دون طموحات فى الرخاء والتقدم.
أما بالنسبة لكل من البيئة الإقليمية والبيئة الدولية للمشروع العربى فيجب أن يمتلك المشروع إرادة الاختيار الواعى المرتكز على اعتبارات المصالح واعتبارات الهوية الحضارية والاعتبارات التاريخية. ومن ثم يجب أن يكون المشروع العربى مناهضاً للمشروع الإسرائيلى- اليهودى (حسب قناعات اليمين التوراتى المتطرف الذى يحكم إسرائيل الآن) الذى يخوض “صراع وجود” مع العرب كل العرب، ولا يقبل ببلورة مشروع عربى يجمع كل الدول العربية فى كيان تكاملى. ويجب أن يدير المشروع العربى علاقاته مع الجوار الإقليمى الحضارى (تركيا وإيران) على أساس من المصالح المشتركة والاعتبارات الحضارية- الثقافية. كما يجب أن يمتلك المشروع إرادة الفرز والاختيار بين القوى الكبرى المتصارعة فى النظام العالمى بين من يمارس التسلط وإملاء الشروط والاستبداد وبين من لديه استعداد للتعامل بندية واحترام للمصالح والثقافات الأخرى.
تأسيس هذه المقومات والانخراط فى تفعيلها فى مقدوره أن يعيد بعث العروبة على أسس حضارية حقيقية وأن يجعل المشروع العربى مشروعاً نهضوياً بامتياز .